أربع مخاوف متكررة عن التعليم المنزلي

هل سمعت وقرأت عن التعليم المنزلي، ولكن تخشى من “عواقبه الوخيمة” كما يحذر البعض، و”انعزال و انطواء” ابنائك عن المجتمع وبالتالي فشلهم الذريع والمؤلم في حياتهم الذي ستكون أنت أيها الأب المُحب وأنتِ أيتها الأم المُحبة السبب فيه؟

المتطلع على المقالات الشحيحة باللغة العربية على الشبكة العنكبوتية حول التعليم المنزلي، يجد أن جلها تتحدث عن مساوئ ومخاوف التعليم المنزلي المبنية على اعتقادات خاطئة نابعة عن شيئين أساسيين:

الفهم السقيم و الغير مُثقف لفكرة التعليم المنزلي،

و عدم وجود عدد كافٍ من التجارب العملية الواقعية التي تبنت هذا النمط الحياتي (وأُصر على تسمية التعليم المنزلي نمط حياة لا نمط تعليم) وبناءً على ذلك انعدام الإحصائيات الرسمية المشجعة في عالمنا العربي.

كوني أم لأربع أبناء لم تطأ أقدامهم مدرسةً قط، وكون أسرتنا سلكت هذا الطريق منذ أكثر من 14 سنة، وكون أننا على مشارف الجامعة مع ابنتنا الكبرى، أستطيع أن أقول أن لدي الثقة التامة التي تؤهلني لأن أفند في الكثير من هذه المخاوف بل واثبت أن معظمها مبني على خوف زائد قد يكون مشروع في نظر البعض، ولكن في نظري لا أساس له!

هنا سأتكلم عن أكثر هذه ” المخاوف” التي مراراً وتكراراً يتساءل عنها  كل من يناقشني في ” تدميري لأبنائي”. فمعظم النقاشات معهم تدور حول هذه المحاور الأربعة:

أربع مخاوف متكررة عن التعليم المنزلي

1. التعليم المنزلي يمنع الأطفال من الاختلاط بالمجتمع والاحتكاك بمكوناته، وبالتالي هم سيكونون منعزلين، خجولين، لا ثقة لديهم بأنفسهم!

في الواقع أساس التعليم المنزلي هو الحياة الاجتماعية الصاخبة!  نعم، أنتم لا تتخيلون، لقد قرأتم كلمة ” صاخبة”.

لا تتصوروا تعجبي واستغرابي من الذين يظنون أن المتعلمين منزلياً لا يخرجون من منازلهم، بل بعضهم يظن انهم لا يرون الشمس حتى!

التعليم المنزلي يعطينا مرونة وحرية مطلقة في عيش حياة اجتماعية صحية متكاملة.  وذلك لأن الأبناء (سواء كانوا أطفال في المرحلة الابتدائية، أم شباب في المرحلة الثانوية) ينهون دراستهم بوقت أسرع وجهد أقل، فيتبقى باقي النهار للنشاطات الإضافية وللعلاقات الاجتماعية.

أعطيكم مثال: في أغلب الأوقات، المتعلمين منزليا ينهون دروسهم وما هو مخطط له في اليوم عند أو قبل صلاة الظهر.

من وقت صلاة الظهر إلى وقت صلاة العشاء لديهم الوقت الكافي لتكوين علاقات اجتماعية صحية مع اقرانهم وأقاربهم وجيرانهم من خلال برامج، و نوادي، و لقاءات، و محاضرات، و اجتماعات منظمة وعفوية.

الحياة الاجتماعية للمتعلمين منزليا تمتاز عن غيرها انها غير محددة بعمر معين، او بمكان معين، أو بزمن معين.

فمن يقول مثلا أن من يذهب إلى المدرسة يأخذ قسط كافٍ من الاختلاط الاجتماعي، فأنا حقيقةً أخالفه الرأي.

وذلك لأن في المدرسة لديهم وقت محدد ( ساعة على أكثر تقدير وهو وقت الاستراحة أو ساعة الغداء) وهو تقريبا الوقت الوحيد الذي يمكن فيه الاختلاط بالأطفال بدون تقيد، أما باقي الوقت المدرسي فهو محصور بين الكتب والسبورة والأساتذة الصارمين ( في معظم المدارس الحكومية على الاقل).

هذه الساعة الوحيدة في النهار غير كافية لتكوين صداقات حميمة وعلاقات اجتماعية ذات معنى.  والدليل على ذلك ان الاطفال الذين تستمر علاقاتهم بأقرانهم لفترات وسنين طويلة هم فقط الذين يستمرون بلقائهم خارج جدران المدارس.  وفي غالب الأحيان هذه الصداقة تتطور إلى علاقات عائلية بسبب تعارف الآباء أو الأمهات على بعضهم البعض.

حاولي أختي العزيزة أن تتذكري معي اسم تلك الفتاة في الصف الرابع ابتدائي التي كان لون شنطتها أحمر؟  أو حاول أخي العزيز أن تتذكر ما هو عمل والد الطالب الذي كان يجلس أمامك في الصف السابع؟  أنا صراحةً لا أتذكر!  ولعلّ العيب في وحدي، من يدري؟!

لذلك دائما أقول ليس المهم الكم، إنما المهم الجودة.  ليس مهم كم ساعة في اليوم “يختلط” ابنك مع غيره، ولكن المهم هو جودة ونوع اللقاءات الاجتماعية الصحية التي قد تتكرر مرة كل عدة أيام.

موضوع المنافع الاجتماعية للتعليم المنزلي موضوع طويل وقد أُلِف فيه الكثير من الكتب، وكُتِب فيه الكثير من المقالات، وأعدكم إن شاء الله بأن نعود إليه في مقال متخصص ومحاور أكثر تشعبا.

أما في الوقت الحالي يمكنكم مراجعة 5 أسباب الإعراض الآباء عن التعليم التقليدي واللجوء إلى فكرة وليدة والجزء الثاني للمقالة 5 أسباب أخرى لإعراض الآباء عن التعليم التقليدي واللجوء إلى فكرة وليدة .

2. كيف سيتم قبولهم في الجامعات إذا كانوا ليس لديهم شهادات تثبت أنهم تعلموا ما “يحتاجون” أن يتعلموه لقبولهم في الجامعات؟

وهذه المخاوف هي مخاوف جدية ومشروعة وبصراحة كانت هذه المخاوف تسيطر على تفكيري أنا و زوجي في بداية مشوارنا في التعليم المنزلي.  كنت كثيرا ما أنظر إلى المرآة وأتساءل: ” يا امرأة ما الذي تفعلينه؟!”

ولكن أنا هنا لأطمن الجميع بأن لكل مشكلة حل، ومن بعد كل عُسر يُسر بإذن الله.

عندما أجيب السائلين (خصوصا من يدرسون اتخاذ قرار التعليم المنزلي) أسألهم أولا من أي دولة هم، وهل يوجد لديهم جنسية أخرى؟ (للأسف أصبحنا نحن المسلمين مشتتين بين دول العالم هنا وهناك، فاقتناء جنسية ثانية أصبح شائعاً جداً في الآونة الأخيرة).

في معظم دول العالم المتطور، التعليم المنزلي معترف به، بل ينظرون إليه على أنه حق من حقوق أولياء الأمور( وهو كذلك في نظري)، إلا بعض الدول الأوروبية كألمانيا مثلا.  فإذا كانت لديكم جنسية غربية فما عليك سوى النظر في قوانين تلك البلد والتعامل مع متطلباتهم بما يلزم.

أما في العالم العربي، فللأسف الشديد، التعليم المنزلي بمفهومه الصحيح غير معترف به، ولكن في نفس الوقت ولله الحمد لا يوجد قانون ( حسب علمي) يجرّم التعليم المنزلي في أيٍ من الدول العربية.  بل إن بعض الدول كقطر وليبيا قد خطت خطوات خجولة في “الاعتراف” بطريقة مقيدة للتعليم المنزلي.

ومع ذلك ففي معظم الدول العربية برنامج الدراسة بالانتساب أو التعلم عن بعد وهذه هي أفضل طريقة في الوقت الحالي لتفادي مشاكل الاعترافات والشهادات ( وكذلك إرضاء الجد والجدة المشغولين جدا على مستقبل احفادهم!)

أعرف شخصياً عائلات مصرية تعلم أبنائها منزلياً (خارج مصر) ويقومون بامتحانات آخر السنة في السفارة المصرية وبذلك يحصلون على تلك الشهادة.  و يعاودون الكرة كل سنة.

أما عن تجربتنا فقد كانت اكثر جراءة، كنا ندرِّس أبنائنا منزلياً في المملكة العربية السعودية دون أي شهادات أو اعترافات من أي دولة.  نعم كانت لدينا جنسية كندية ولكن لم نكن مسجلين مع أي أكاديمية أو لجنة أو منظمة تقوم بـ”مراقبة” مسيرتنا التعليمة ثم تعطينا ورقة تثبت تحصيلنا العلمي.  استمرينا بهذه الطريقة عشر سنوات متواصلة.

قد يتساءل البعض أين كان عقلك؟ ما هذا الجنون؟  بل ألم يخاف قلبك؟  بالنسبة لعقلي فقد كان  موجود طوال الوقت، أما قلبي فلا أعرف، ربما كان في البراد!

بفضل الله ومنته عندما عُدنا لكندا، كل ما تطلب الأمر هو مقابلة أبنائي وتقييمهم تقييم عام وتسجيلهم مع بورد تعليمي.  وبعد سنة من تلك المقابلة الأولية، حصلوا على تلك الشهادة التي طالما صدّعت رؤوسنا!

أربع مخاوف متكررة عن التعليم المنزلي

3. سيتعود الطفل على الاتكالية على الوالدين لتقديم له كل ما يحتاج دراسته على ” طبق من فضة” وبالتالي يجب على كل طالب علم أن يمشي بقدميه إلى المدرسة لتلقي العلم.

في واقع الأمر هذا مخالف تماماً لأهداف التعليم المنزلي.  التعليم المنزلي في طياته هو تعليم ذاتي، تعليم يحث على البحث والاكتشاف، تعليم يعلم الطفل منذ الصغر على الاعتماد على النفس و “الخروج عن النص” في إيجاد الحلول.  للمزيد حول أنماط وفلسفات التعليم المنزلي، التي كلها تصب في اتجاه واحد وهو تعليم الأطفال حب التعلم، إليكم هذه المقالة.

من الطبيعي ان يحتاج الطفل في صغره إلى توجيه وعناية من قبل أي شخص يشرف على تعليميه (سواء كان ذلك في المدرسة أم في البيت)، ولكن في التعليم المنزلي يبدأ مفهوم البحث عن المعلومة مبكراً جداً في هذا المشوار.  مع تقدم الطفل في العمر، وبعد وصوله إلى نهاية المرحلة الابتدائية، يكون الطفل قد أتقن أسس وخطوات البحث العلمي البسيط (عملياً وليس نظرياً!).

بعد المرحلة الابتدائية، يبدأ تدريب الأبناء على البدء في قراءة الدروس وفهمها وحلها لوحدهم، والرجوع إلى الوالدين في حال عدم الفهم فقط.  ثم يتطور الأمر في المرحلة الثانوية إلى الاعتماد شبه الكامل على أنفسهم في الدراسة.  بل حتى قد يتطور الأمر مع طلبة الثانوية إلى مرحلة يسبقون فيها آباءهم في الفهم والأداء!

الجامعات المرموقة مثل جامعة هارفرد، وجامعة أوكسفور، وغيرها من الجامعات تقوم بأمرين لتجنيد طلبة التعليم المنزلي للالتحاق بجامعاتهم:

الأول، حضور منتديات ومؤتمرات التعليم المنزلي ودعوة طلبة التعليم المنزلي للانضمام إليهم.

والشيء الثاني إعطاء تسهيلات لطلبة التعليم المنزلي في إجراءات القبول.

والسبب؟

ليس لأن طلبة تعليم المنزلي أذكي أو أعلى درجات، لكن لأن الاحصائيات أثبتت أن طلبة التعليم المنزلي في السنة الأولى من الجامعة، التي غالباً ما يكون فيها الأداء أقل، يكون أداؤهم أفضل من طلبة المدارس، والسبب لأن المتعلمين منزلياً لديهم خبرات أعلى في التلقي الذاتي والبحث عن المعلومات، وعدم انتظار تقديم ” المنهج المقرر” لهم كما اعتادوا في المدارس النظامية.

لذلك أقول بأن هذه المخاوف ليس لها أي أساس، بل أن واقع الأمر معاكس تماماً لما يظنه الكثير.

نحن في العالم العربي لم نصل إلى مرحلة دخول طلبة التعليم المنزلي إلى جامعاتنا العربية لكي تُقام دراسات وأبحاث تُقيم أداء المتعلمين منزلياً وتقارنهم بأقرانهم.

لذلك اعتقد إن وصلنا إلى تلك المرحلة، وتم بالفعل وضع آليات ودراسات لتقييم أداء المتعلمين منزلياً، فإن النتائج ستكون أعلى بكثير من النتائج التي أعطتها الدراسات في العالم الغربي.

لماذا؟

بكل بساطة لأن التعليم الأساسي (الحكومي والخاص) في العالم العربي أسوأ بكثير من التعليم الأساسي في الغرب!

4. إذا قررت أن اعلم ابنائي منزلياً، فلن يكون لدي وقت فراغ، ولن أستطيع أن “أستمتع بحياتي”، فالأولاد سيكنون معي 24 ساعة / 7 أيام في الاسبوع (يا لهوي!)

بصراحة أضحك ضحكة صفراء عند مناقشة هذا الأمر، ودائماً أجاوبهم مازحةً بأني لا أجد طعم الراحة حتى في بيت الراحة!

نعم.  سيكونون الأبناء معك معظم الوقت، هذا أمر واقع لا مفر منه.  ولا أعتقد أن هذا عيب من عيوب التعليم المنزلي في نظري، بل العكس تماماً.  أنا اعتبر ذلك من مزايا التعليم المنزلي التي تمنحنا الفرصة لتكوين علاقات أسرية متينة، وللمزيد من التعرف على أبناءنا والقرب منهم، خصوصاً في مرحلة المراهقة.

في اللحظة التي قررنا فيها الإنجاب، تبدأ المسؤولية  تجاه هذه الكائنات اللطيفة.  هذه المسؤولية ليست بالشيء الهين، ولا السهل، ولم يعجل الله عز وجل لنا حق بر الوالدين من فراغ، بل لأن واجبنا تجاه أبنائنا من أعظم الواجبات، وعليها جزيل الأجر.  لذلك فأنا أنظر للتعليم المنزلي من منظور الواجب المحتم علينا والمسؤولية الملقاة على عاتقنا، وأرى أن إرسال أبنائنا للمدارس (وإن كان جائز شرعاً ولا حرج فيه بتاتاً) بأنه نوع من التقصير في الحفاظ على أبنائنا وحقوقهم التربوية.

وفي نفس الوقت لا أعتقد أن الأمهات المعلمات منزلياً لا يستمتعن بحياتهن، على العكس تماماً، فالحياة الاجتماعية مع التعليم المنزلي مرنة أكثر، وأوقات الفراغ أكثر، والضغط النفسي في فترة الامتحانات أقل على الأمهات والأبناء معاً.

وهذه المخاوف هي في الحقيقة منبعثة من الفكرة الخاطئة أن المتعلمين منزلياً معزولون عن الحياة ، في حين أن المتعلم منزلياً لديه الكثير من النشاطات والبرامج التي تعطي الأم مجالاً لـ”الاستمتاع بوقتها” أو أخذ قسطاً من الراحة، أو المشاركة في النشاطات التي يشارك فيها الأبناء، مما يفتح المجال لتكوين علاقات جديدة مع أمهات وأُسر أخرى.

وخلاصة القول فهذه المخاوف الأربع هي أكثر ما يثار عند مناقشتي في خيارنا للتعليم المنزلي.  ودائما أشعر بأن اجاباتي غالباً لا تقنع الطرف الآخر، لذلك دائما ادعو للتفكير خارج الصندوق، ومحاولة النظر للأشياء من زوايا أخرى، والبعد عن التنظير والتعميم.

في محيط العائلة، لم تتغير آراء من ناقشني إلا بعد سنين طويلة من العمل الشاق.  بعد أن أثبت أبنائي بأنهم “طبيعيين” في مستواهم التعليمي ومهاراتهم الاجتماعية.  والآن منهم من يشجع على التعليم المنزلي بعد أن كان معارضاً له، وهناك من يسأل عن طريقته لدراستها وربما – عن قريب – اتخاذ قرار اللحاق بركبنا.

وتغيرت الآراء في الغرب بعد إجراء دراسات واحصائيات على المتعلمين منزلياً، وبعد أن أثبتوا للعالم بأن طريقة حياتهم وتعليمهم ليست فقط مجدية وفعّالة، بل وصلت إلى التميّز والتفوق.  ووصلت أصداء نتائج هذه الدراسات إلى عالمنا العربي.

لذلك أرجو ألا تثنِ هذه المخاوف من يفكر في التعليم المنزلي كخيار بديل عن التعليم النظامي، وأتمنى أن أرَ عدداً أكبر للمتعلمين منزلياَ في عالمنا العربي.

لا تنسوا مشاركة هذه المقالة، وغيرها من المقالات – إن أعجبتكم – من خلال أيقونات التواصل الاجتماعي في الأسفل.

أربع مخاوف متكررة عن التعليم المنزلي

ربما سيعجبك أيضاً

Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments